لا ترحل من كون إلى كون ؛ فتكون كحمار الرحى؛
يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ،
ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون .
(ابن عطاء الله السكندري )
لم يحتمل الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ وطأة القلق النفسي الذي عانى منه نتيجة لشعوره بعبثية الحياة التي يحياها في ذلك العصر المائج بالاضطرابات السياسية والاجتماعية والدينية ، وشعر أن الغاية التي كان ينشدها من وراء الاشتغال بالعلم والتعليم ، شابها الكثير من حب الذات ، وطلب الشهرة واكتساب الدنيا ، وتقلد المناصب ، واللهث وراء الألقاب ، ولم تعد الأعذار التي كان يتخذها لنفسه مقنعة له بعد أن أحس أن نية الدفاع عن الدين ، والذود عن حياض العقيدة ، والجهاد في سبيل طلب العلم وتحصيله ، قد هزها الشعور بالزهو ، وحب الغلبة ، وتسلط الغرور، والراحة إلى قول الناس : جاء الإمام أو غادر الإمام ؛ مما جعل الغزالي يتوقف كثيراً أمام مسيرة حياته الماضية ؛ ليعيد التفكير في خطرات نفسه ، وتطلعات فؤاده ، ومرادات عقله .
وكان لا بد من الابتعاد عن مواطن الشبهات ، ومواقع الهوى ومساقط الفتنة ، فضرب في أرض الله ناشدا راحة النفس وصفاء القلب ، وهدوء العقل ، وآثر العزلة والخلوة ، مبتعدا عن العلائق التي تشده إلى الأهل والوطن ، متخذا السفر والرحلة سبيلا للمراجعة والمحاسبة .
دفن الغزالي نفسه في أرض الخمول فترة من الزمن ، وبدأ يفتش في ذاته عن ذاته ، مفكرا في النفس الإنسانية : ماهيتها وكنهها ، دوافعها وميولها، فجراتها وغدراتها ، جمرها وثلجها ، نورها ودجاها ، ، كيف تحسد من تحب ، وكيف تبتعد عمن تتمنى قربه ، كيف تحزن ولماذا ، وكيف تفرح ولماذا ، كيف رُكِّبت ، ومن أي شئ رُكِّبت ، كيف تنقلب فيها النوايا بين عشية وضحاها ، وكيف يشوب الخير فيها الشر ، وأين هو ذلك الركن المظلم الذي تتصارع فيه أحابيل الشياطين وأنوار الملائكة .
وبين (كيف ومتى ولماذا) قضى الغزالي خلوته في منارة (الأموي بدمشق) أو في حجرة (قبة الصخرة بالقدس) ليخرج للعالم بعد ذلك سفرا ضخما متفرقا ـ ينتظر من يجمعه ـ عن النفس الإنسانية ، واضعا بذلك اللبنات الأولى لعلم النفس الإسلامي الذي ارتبط ارتباطا وثيقا ـ رغم رفض الكثيرين ـ بالتصوف الإسلامي الحق ، الذي ترتبط فيه معرفة النفس بمعرفة خالقها :
(اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس ..... وليس شئ أقرب إليك من نفسك ، فإذا لم تعرف نفسك فكيف تعرف ربك )
بهذه الكلمات الرائعة هدم حجة الإسلام الغزالي المناهج المادية لعلم النفس الغربي التي جاءت بعده بألف عام ؛ إذ جعل الغاية من معرفة النفس معرفة الله ، وجعل الوسيلة إلى معرفة الله معرفة النفس ، مؤكدا على أن أي نظرية تقف عند النفس الإنسانية فقط دون أن تصلها بصانعها ، هي نظرية لا ترى أبعد من أنفها ، وأنها لا بد أن تصطدم في مسيرتها بسد (الغاية) التي لم تعترف به ، ولم تلتفت إليه .
إن علم النفس الحقيقي كما يراه الغزالي لا يرتبط ارتباطا جذريا بالغرائز الحيوانية ، أو الشهوات الجسدية ، فهذه الدوافع الثانوية ليست سوى نزعات يمكن كبحها وترويضها وتهذيبها لتصب في المجرى الطبيعي للهدف الأسمى والغاية العليا ، ولذلك يقول الغزالي : " لقد جمعت في باطنك صفات منها صفات البهائم ، ومنها صفات السباع ، ومنها صفات الملائكة ؛ فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب عنك ، وعارية عندك ... فالواجب عليك أن تعرف هذا ، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة ... فإن سعادة البهائم في الأكل والشرب والنوم والنكاح ، فإن كنت منهم فاجتهد في أعمال الجوف والفرج ، وسعادة السباع في الضرب والفتك ، وسعادة الشياطين في المكر والشر والحيل ، فإن كنت منهم فاشتغل بأشغالهم ، وسعادة الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وليس للغضب والشهوة إليهم طريق ، فإن كنت من جوهر الملائكة فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية ، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال ، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب ."
ويريد الغزالي بهذا أن يقرر أن النفس المسلمة هي التي تتصرف بقوتها ضد رغباتها ونداءات جسدها وغرائزها التي لا تنتهي لو ترك لها الحبل على الغارب ؛ فالنفس طُلعَة .... كلما انتهت من أمر تطلعت إلى ما وراءه ، ولأن يكبح الإنسان جماحها خير له من أن تورده موارد الهلكة ، فتأسره بالغرائز ، وتستعبده بالشهوات .... يقول : (وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك، فما خلقك الله تعالى لتكون أسيرها، ولكن خلقها حتى تكون أسراك وتسخرها للسفر الذي قدّامك، وتجعل إحداها مركبك والأخرى سلاحك حتى تصيد بها سعادتك .)
إن النقاء والطهر مع عدم إغفال النزوات والشهوات والرغبات هو الأساس الذي بنى عليه الغزالي فلسفته النفسية ، فأثبت بذلك الأصل ولم يهمل الفروع ، بل أخذ بيد من وقع في حمأة الرذيلة ، وأوحال الرغبة ليهديهم إلى الأسباب المنقذة لهم ، ويبحث في أعماق نفوسهم عن مواصفات تزكيتها ، وطرائق تنقيتها .
يقول : " إنك مركب من شيئين .. الأول : هذا القلب ، والثاني يسمى النفس والروح ، والنفس هو القلب الذي تعرفه بعين الباطن ، وحقيقتك الباطن ؛ لأن الجسد أول ... وهو الآخر،،،، والنفس آخر وهو الأول " .
فالأعضاء الظاهرة والجوارح المباشرة والهيكل الجسدي ليس هو الحقيقة الفعلية بل هو جثة هامدة لولا وجود الروح فيه .... إذن فلابد أن تكون الحقيقة نابعة من هذه الروح التي لا يعرف كنهها غير خالقها .... ومن هنا جاء الارتباط الوثيق عند الغزالي بين معرفة النفس ومعرفة الخالق ، فكل الطرق تؤدي إلى الله ، وسيضل من يبحث عن نفسه بعيدا عن طريق خالقها .
وهذه الروح الحبيسة في الجسد الأرضي لا بد لها من علامات على الطريق تهديها وترشدها وتنبهها ؛ ولذلك خلق الله لها العقل ليكون رائدها في مسالك الطريق إلى الله ، فإن اختل العقل وسقط في هوة العلائق والرغبات ضلت الروح الطريق إلى خالقها ، وقيدت إلى الجسد الأرضي بقيود النزوات والشهوات والدوافع الخسيسة .
وقد أوضح الإمام الغزالي الوسيلة الموصلة إلى طهارة النفس وصيانة الروح فقال: "ولا تظنن أن هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط .. بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة فإذا جلس في مكان خال وعطّل طريق الحواس ، وفتح عين الباطن وسمعه وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت وقال دائماً (الله) بقلبه دون لسانه إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه ولا من العالم ويبقى لا يرى شيئاً إلا الله سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة ".
إن القارئ لهذه الكلمات ليشعر أن هم الغزالي الأوحد هو ربط الإنسان بالله ليعرف الإنسان نفسه من خلال معرفته بربه ، وهذا ما قصد إليه ابن عطاء الله السكندري عندما قال : " لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير والمكان الذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون "
وليس الذين وصلوا إلى المقامات العليا المفعمة بالراحة والسكينة ملائكة نزلوا من السماء ، بل هم بشر مثلنا ، أخلصوا المجاهدة ، وكابدوا معاناة الرياضة الروحية حتى شفت أجسادهم ، فرفرفت أرواحهم في موطنها الأول ، ومستقرها الأخير .
ولو تأملنا في الكيفية التي ربَّى بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لأدركنا أن المنهج الأسمى الذي يمكن أن يصفي النفس ويؤلف القلوب هو المنهج المرتبط بخالق هذه النفس ؛لأنه أدرى بها وأعلم : (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) . ولن أبتعد كثيرا إذا قلت أننا نستطيع أن نستخرج من آيات القرآن الكريم منهجا نفسيا ربانيا لعلاج اضطرابات النفس الحديثة التي تخبط الكثيرون في تحديد كنهها فضلا عن وصف الدواء لها ، ولا أريد أ أوسع الموضوع لأقول : إن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعماله تعد مرجعا مهما يجب الرجوع إليه لاستخراج الأمصال المضادة لاضطرابات النفس العصرية الفتاكة . .... هذا فضلا عن إسهامات سلف الأمة وعلمائها وأدبائها ومفكريها على مر العصور والأزمنة .
أما إسهامات التصوف الإسلامي الحق المستمد من الكتاب والسنة في هذا المجال ، فهو حجر الزاوية وجوهرة التاج ، ولو صُفِّي التراث الصوفي مما فيه من غلو وتجاوز لوجدنا بين أيدينا كنزا رائعا يقلب موازين علم النفس الحديث رأسا على عقب ( ولا أدري لماذا لم يلتفت الباحثون إلى هذا التراث إلى الآن ، واكتفوا بفرويد ، ولاكان وبافلوف وثورنديك .... وغيرهم ممن جعلوا النفس الغربية الأوربية مقياسا للنفس الإنسانية عامة ؛ فوضعوا القواعد لها ظانين أنها تصلح لكل زمان ومكان ، مغفلين اختلافات البيئات والعوامل والأفكار).
ختاما .... فإن فكر الغزالي ، ونظرياته النفسية تحتاج إلى الكثير من جهد الباحثين الجادين الذين سيجدون أمامهم كنزا معرفيا رائعا ربما يفتح الباب واسعا أمام نظريات جديدة في علم النفس الإنساني