ثار القريض بخاطري فدعوني *** أفضي لكم بفجائعي وشجوني
فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى *** والشعر عودي يوم عزف لحوني
كم قال صحبي أين غر قصائدي *** تشجي القلوب بلحنها المحزون
وتخلّد الذكرى الأليمة للورى *** تتلى على الأجيال بعد قرون
ما حيلتي والشعر فيض خواطرٍ *** ما دمت أبغيه ولا يبغيني ؟
واليوم عاودني الملاك فهزني *** طرباً إلى الإنشاد والتلحين
ألهمتها عصماء تنبع من دمي *** ويمدها قلبي وماء عيوني
نونية والنون تحلو في فمي *** أبداً فكدت يقال لي ذو النونِ
صورت فيها ما استطعت بريشتي *** وتركت للأيام ما يعييني
أحداث عهد عصابة حكموا بني *** مصرَ بلا خلقٍ ولا قانون
أنست مظالمهم مظالم من خلوا *** حتى ترحمنا على نيرون
حسبوا الزمان أصمّ أعمى عنهم *** قد نوّموه بخطبةٍ وطنين
ويراعة التاريخ تسخر منهمو *** وتقوم بالتسجيل والتدوين
وكفى بربك للخليقة محصياً *** في لوحه وكتابه المكنون
يا سائلي عن قصتي اسمع إنها *** قصص من الأهوال ذات شجون
أمسك بقلبك أن يطير مفزعاً *** وتولّ عن دنياك حتى حين
فالهول عاتٍ والحقائق مرةٌ *** تسمو على التصوير والتبيين
والخطب ليس بخطب مصر وحدها *** بل خطب هذا المشرق المسكين
في ليلة ليلاء من نوفمبرٍ *** فزعت من نومي لصوت رنين
فإذا كلاب الصيد تهجم بغتةً *** وتحوطني عن شمألٍ ويمين
فتخطفوني من ذوي وأقبلوا *** فرحاً بصيدٍ للطغاة سمين
وعزلت عن بصر الحياة وسمعها *** وقذفت في قفص العذاب الهون
في ساحة (الحربي) حسبك باسمه *** من باعث للرعب قد طرحوني
ما كدت أدخل بابه حتى رأت *** عيناي ما لم تحتسبه ظنوني
في كل شبر للعذاب مناظرٌ *** يندى لها -والله - كل جبين
فترى العساكر والكلاب معدة *** للنهش طوع القائد المفتون
هذي تعض بنابها وزميلها *** يعدو عليك بسوطه المسنون
ومضت علي دقائق وكأنها *** مما لقيت بهن بضع سنين
يا ليت شعري ما دهانِ؟ وما جرى؟ *** لا زلت حياً أم لقيت منوني؟
عجباً أسجن ذاك أم هو غابةٌ *** برزت كواسرها جياع بطون ؟
أأرى بناء أم أرى شقي رحى *** جبارة للمؤمنين طحونِ؟
واهاً أفي حلم أنا أم يقظةً *** أم تلك دار خيالة وفتون ؟
لا لا أشك هي الحقيقة حية *** أأشك في ذاتي وعين يقيني ؟
هذي مقدمة الكتاب فكيف ما *** تحوي الفصول السود من مضمون ؟
هذا هو (الحربي) معقل ثورة *** تدعو إلى التحرير والنكوين
فيه زبانية أعدوا للأذى *** وتخصصوا في فنه الملعون
متبلدون عقولهم بأكفهم *** وأكفهم للشر ذات حنين
لا فرق بينهمو وبين سياطهم *** كل أداة في يدي مأفون
يتلقفون القادمين كأنهم *** عثروا على كنزٍ لديك ثمين
بالرجل بالكرباج باليد بالعصا *** وبكل أسلوبٍ خسيسسٍ دونِ
لا يقدرون مفكراً ولو أنه *** في عقل سقراط وأفلاطون
لا يعبئون بصالحٍ ولو أنه *** في زهد عيسى أو تقى هارون
لا يرحمون الشيخ وهومحطمٌ *** والظهر منه تراه كالعرجون
لا يشفقون على المريض وطالما *** زادوا أذاه بقسوةٍ وجنون
كم عالمٍ ذي هيبة وعمامةٍ *** وطئوا عمامته بكل مجون
لو لم تكن بيضاء ما عبثوا بها *** لكنها هانت هوان الدين
وكبيرِ قومٍ زينته لحيةٌ *** أغرتهمو بالسبِّ والتلعين
قالوا له :انتفها -بكل وقاحةٍ *** لم يعبأوا بسنينه الستين
فإذا تقاعس أو أبى يا ويله *** مما يلاقي من أذىً وفتون
أترى أولئك ينتمون لآدمٍ *** أم هم ملاعينٌ بنو ملعون ؟
تالله أين الآدمية منهمو *** من مثل محمودٍ ومن ياسين
من جودة أو من دياب ومصطفى *** وحمادةٍ وعطية وأمين
لا تحسبوهم مسلمين من اسمهم *** لا دين فيهم غير سبّ الدين
لا دين يردع لا ضمير محاسبٌ *** لا خوف شعبٍٍ لا حمى قانون
من ظن قانوناً هناك فإنما *** قانوننا هو حمزة البسيوني
جلاد ثورتهم وسوط عذابهم *** سموه زوراً قائداً لسجون
وجه عبوس قمطرير حاقدُ *** مستكبر القسمات والعرنين
في خده شجٌ ترى من خلفه *** نفساً معقدةً وقلب لعين
متعطشٍ للسوءِ في الدم والغٍ *** في الشرّ منقوعٍ به معجونِ
هذا هو الحربي معقل ثورة *** تدعو إلى التطوير والتحسين
هو صورة صغرى استعيرت من لظى *** في ضيقها وعذابها الملعون
هو مصنع للهول كم أهدى لنا *** صوراً تذكرنا بيوم الدين
هو فتنة في الدين لولا نفحةٌ *** من فيض إيمانٍ وبرد يقين
قل للعواذل إن رميتم مصرنا *** بتخلف التصنيع والتعدين
مصر الحديثة قد علت وتقدمت *** في صنعة التعذيب والتقرين
وتفننت - كي لا يمل معذَّبٌ *** في العرض والإخراج والتلوين
أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنه *** حتى يُرى في هيئة البالون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه *** بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟
أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه *** ناراً وقد صبغوه بالفزلين ؟
أسمعت ما يلقى البرئ ويصطلي *** حتى يقول: أنا المسئُ خذوني
أسمعت بالآهات تخترق الدجى *** رباه عدلك .. إنهم قتلوني
إن كنت لم تسمع فسل عمّا جرى *** مثلي ولا ينبيك مثل سجين
واسأل ثرى الحربي أو جدرانه *** كم من كسير فيه أو مطعون
وسل السياط السود كم شربت دماً *** حتى غدت حمراً بلا تلوين
وسل (العروسة) قبحت من عاهرٍ *** كم من جريحٍ عندها وطعين
كم فتية زفوا إليها عنوة *** سقطوا من التعذيب والتوهين
واسأل (زنازين) الجليد تجبك عن *** فن العذاب وصنعة التلقين
بالنار أو بالزمهرير فتلك في *** حينٍ وهذا الزمهرير بحين
يُلقى الفتنى فيها ليالي عارياً *** أو شبه عارٍ في شتا كانون
وهناك يملي الاعتراف كما اشتهوا *** أو لا فويل مخالفٍ وحرون
وسل (المقطم) وهو أعدل شاهدٍ *** كم من شهيدٍ في التلال دفين
قتلته طغمة مصر أبشع قتلةٍ *** لا بالرصاص ولا القنا المسنون
بل علقوه كالذبيحة هيئت *** للقطع والتمزيق بالسكين
وتهجدوا فيه ليالي كلها *** جلدٌ وهم في الجلد أهل فنون
فإذا السياط عجزن عن إنطاقه *** فالكي بالنيران خير ضمين
ومضت ليالٍ والعذاب مسجّرٌ *** لفتى بأيدي المجرمين رهين
لم يعبؤوا بجراحه وصديدها *** لم يسمعوا لتأوهٍ وحنين
قالوا اعترف أو مت فأنت مخيّرٌ *** فأبى الفتى إلا اختيار منون
وجرى الدم الدفاق يسطر في الثرى *** يا إخوتي استشهدت فاحتسبوني
لا تحزنوا إني لربي ذاهبٌ *** أحيا حياة الحر لا المسجونِ
وامضوا على درب الهدى لا تيأسوا *** فاليأس أصل الضعف والتهوين
قل للذي جعل الكنانة كلها *** سجناً وبات الشعب شر سجين
يا أيها المغرور في سلطانه ***أمن النضار خلقت أم من طين ؟
يا من أسأت لكل من قد أحسنوا *** لك دائنين فكنت شر مدين
يا ذئب غدرٍ نصبوه راعياً *** والذئب لم يك ساعة بأمين
يا من زرعت الشر لن تجني سوى *** شرٍ وحقدٍ في الصدور دفين
سيزول حكمك يا ظلوم كما انقضت *** دول أولات عساكر وحصون
ستهب عاصفةٌ تدك بناءه *** دكاً وركن الطلم غير ركين
ماذا كسبت وقد بذلت من القوى *** والمال بالآلاف والمليون ؟
أرهقت أعصاب البلاد ومالها *** ورجالها في الهدم لا التكوين
وأدرت معركة تأجج نارها *** مع غير (جون بولٍ) ولا كوهين
هل عدت إلا بالهزيمة مرّةٍ *** وربحت غير خسارة المغبون ؟
وحفرت في كل القلوب مغاوراً *** تهوي بها سفلاً إلى سجّين
وبنيت من أشلائنا وعظامنا *** جسراً به نرقى لعليين
وصنعت باليد نعش عهدك طائعاً *** ودققت إسفيناً إلى إسفين
وظننت دعوتنا تموت بضربةٍ *** خابت ظنونك فهي شر ظنون
بليت سياطك والعزائم لم تزل *** منّا كحدّ الصارم المسنون
إنا لعمري إن صمتنا برهةً *** فالنار في البركان ذات كمون
تا لله ما الطغيان يهزم دعوةً *** يوماً وفي التاريخ برُّ يميني
ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي *** بالسوط ضع عنقي على السكّين
لن تستطيع حصار فكري ساعةً *** أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يديْ *** ربّي .. وربّي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي *** وأموت مبتسماً ليحيا ديني